يعقوب الحلو.. مسؤول أممي يروي فاجعة السودان بلسان النازحين

يعقوب الحلو.. مسؤول أممي يروي فاجعة السودان بلسان النازحين
يعقوب الحلو

على مدى أكثر من ثلاثة عقود، عبر المسؤول الأممي يعقوب الحلو قارات العالم متنقلًا بين بؤر النزاعات والحروب، من ليبيريا إلى ليبيا، ومن سوريا إلى الصومال وأفغانستان، ظل وجهه مألوفًا في مخيمات اللاجئين وممرات الطوارئ الإنسانية، لكنه يعترف اليوم أن ما يجري في السودان يفوق كل ما شهده في حياته المهنية الطويلة.

في حديثه لبرنامج "Awake at Night" الذي تقدمه ميليسا فليمنغ، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للتواصل العالمي، بدا الحلو مثقلًا بالأسى قائلاً بصوت يحمل مرارة السنين: "عملت ستة وثلاثين عامًا في مناطق نزاع، لكن لم أر حربًا مثل هذه، السرعة التي دمرت بها المدن، والنطاق الذي شرد الناس، كلاهما غير مسبوقين".

يستعيد الحلو بدايات الحرب قائلاً في أبريل 2023 كانت البلاد خارجة لتوها من ثورة حملت وعودًا بالديمقراطية والسلام، قبل أن تتلاشى تلك الأحلام في دوامة من الدم والانقسام، اليوم هناك أربعة عشر مليون نازح، بينهم مليونا لاجئ عبروا الحدود، "هذه ليست حرب السودانيين"، ويضيف الحلو بحزم، "بل حرب أجندات خارجية تدور رحاها فوق أرضنا، في حين أن الشعب يدفع الثمن".

بلد غني يتبدد

يرى الحلو أن المأساة السودانية لا تقتصر على حجم الدمار الإنساني، بل تطول ثروات بلد غني بالموارد الطبيعية والزراعية، "ثروات السودان تُستنزف في حين يجبر شعبه على ترك منازله"، يقول بمرارة، وهو يخشى أن يستمر "نزيف الموت" ما لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية أكبر.

ويضيف المسؤول الأممي، أن السودان يكاد يغيب عن عناوين الأخبار العالمية، رغم أن حجم الكارثة يفوق في نظره ما يحدث في أوكرانيا وغزة.

كرّس الحلو حياته لمساعدة المشردين قسريًا، لكنه يعترف أن التجربة تترك ندوبًا لا تزول، "إنها ترافقك إلى الأبد، تسكن مشاعرك، لكنها في الوقت نفسه تمنحك شجاعة للاستمرار"، يقول ويصر على أن القوة الحقيقية يستمدها من اللاجئين أنفسهم، أولئك الذين يُنظر إليهم أحيانًا كضحايا بلا حول ولا قوة، في حين أنهم في الواقع مصدر إلهام.

من البيت إلى المنفى

يصبح الحلو أكثر إنسانية وهو يتحدث عن أسرته، فهو ابن النيل الأبيض، من عائلة مزارعة وسياسية في آن، جذورها ضاربة في مقاومة الاستعمار البريطاني، لكن كل ما بنته الأجيال تحطم في غضون شهور، يقول: "لا أعتقد أن بيتًا واحدًا في الخرطوم سلم من الدمار".

في اليوم الذي اندلعت فيه الحرب في السودان كان اثنان من أبنائه في الخرطوم، ابنته رزان عادت من الخارج لتبدأ عملها، في حين كان ابنه الأصغر علي لا يزال في المدرسة، أسبوعان قضاهما عالقَين وسط القتال، قبل أن تبدأ رحلة إجلاء محفوفة بالمخاطر.

يتذكر الحلو وهو يتابع الرحلة من بعيد، عبر اتصالات متقطعة من أديس أبابا: "قلت لهما اكتبوا ما ترونه، فهذا سيساعدكما على مواجهة الصدمة"، استغرقت الرحلة خمسين ساعة في حافلة مكتظة بخمسة وخمسين فردًا من العائلة، وعند الحدود المصرية، أنهكهم التعب، لكنهم كانوا أحياء، رزان بدأت تكتب شهاداتها على منصة إلكترونية أسمتها "أصوات الوطن"، لتحول الألم إلى مساحة للتعافي والمشاركة.

مأساة بحجم الوطن

يصف الحلو المشهد في بلاده بعبارة بسيطة: "إنها فاجعة"، ليست الخسائر البشرية وحدها ما يثقل كاهله، بل أيضًا الخراب الذي أصاب البنية التحتية في السودان من جسور وطرق وصناعات، هذا تدمير عشوائي لا يتناسب مع أي منطق"، يقول، متسائلًا: "لماذا يحدث هذا؟ أين العقل؟".

ورغم مرارة الفقد، يؤكد أن السودانيين لم يفقدوا كرمهم، في بلد تتناثر فيه الجثث وتتهدم البيوت، بل يواصل الناس فتح أبوابهم للغرباء وإطعام من لا يعرفونهم، أكبر عملية إنسانية في السودان اليوم يديرها السودانيون أنفسهم".

يعود الحلو إلى ذكريات الطفولة، حيث كانت مائدة الطعام في بيتهم بالخرطوم ساحة للنقاش السياسي قائلاً: "عائلتي منغمسة في السياسة، وأنا اخترت طريق العمل الإنساني، لكن الطاولة كانت بمثابة برلمان"، يروي بابتسامة حزينة، واليوم، وقد دُمرت بيوت العائلة في أم درمان والخرطوم، يشعر أن جزءًا من ذاكرة الوطن قد ضاع.

بين اليأس والأمل

ورغم المشهد القاتم، يتمسك الحلو بالأمل، يقول: "كل حرب لها نهاية، الأطراف ستدرك عاجلًا أو آجلًا أن السلاح ليس حلا"، كما يستمد الحلو ثقته أيضًا من السوداني البسيط، المحب للسلام والمضياف، الذي يواجه محنته بصلابة.

أما الأمل الأكبر، فيراه في وقف تدفق الدعم الخارجي للمتحاربين، لافتاً إلى أنه كلما توقف هذا الدعم، اقتربنا من طاولة الحوار، مؤكدًا أن السودان يمتلك كل مقومات النهوض من جديد.

ويوجه الحلو رسالة مزدوجة، للسودانيين، يدعوهم إلى "وضع الوطن فوق الأجندات الخارجية"، وللعالم يناشد بعدم تجاهل السودان، مؤكداً أنه وطن عظيم يُختطف اليوم في صراع لا يخدم أبناءه، مضيفًا أن المجتمع الدولي والإعلام مدعوان إلى كسر دائرة النسيان التي تحاصر مأساة السودان.

السودان، ثالث أكبر بلد في إفريقيا، يملك واحدًا من أغنى الأنهار الزراعية وأكثر الموارد الطبيعية تنوعًا، لكن تاريخه الحديث مثقل بانقلابات عسكرية وصراعات داخلية، فبعد ثورة 2019 التي أطاحت بحكم عمر البشير، دخلت البلاد مرحلة انتقالية بدت واعدة، قبل أن تتفجر المواجهات في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، لتتحول إلى واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم اليوم.

وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، يواجه أكثر من 25 مليون سوداني، أي نصف السكان تقريبًا، خطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي، في حين تعجز المنظمات الإنسانية عن الوصول إلى العديد من المناطق بسبب القتال المستعر.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية